1 - العلم:
فيشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون على علم يعلم به أن ما يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر؛ لأنه إن كان جاهلا بذلك فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهى عما ليس بمنكر، ولا سيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل، وصار فيه الحق منكرا والمنكر معروفا، والله تعالى يقول: )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ( ([1]) فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه ([2]) .
ويتأكد هذا الشرط في القضايا التي تحتاج إلى كد الذهن وإعمال العقل في فهم مقاصد الشرع ومعرفة مدارك الاستنباط من النصوص، ومنها مسألة التكفير بل هي على رأسها، وقد علمنا ما ترتب على عدم الدقة في التعامل مع النصوص المتعلقة بها ([3]) .
أما في الواجبات الظاهرة التي لا يختلف عليها اتفاق، أو المحرمات المشهورة فلا يشترط فيها العلم التفصيلي، يقول الزمخشري في الكشاف: ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وكيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره، لأن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر) ([4]) .
2 - التزام الحكمة والموعظة الحسنة:
وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة وحسن الأسلوب واللطافة مع إيضاح الحق؛ لقوله تعالى: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ( ([5]) فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق فإنها تضر أكثر مما تنفع، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسنادا مطلقا إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس؛ لأنهم مجبولون على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده فيما قص الله عنه: )وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ( ([6]) .
فالحكمة والموعظة الحسنة تستدعي وتستلزم علما وحلما ورفقا ولينا ورحمة وصبرا.
فالعلم سبق أنه وسيلة إلى معرفة المعروف والمنكر، وهو أيضا وسيلة إلى فقه أحوال المخاطبين وظروفهم والطريقة التي يخاطبون بها، فلا تدفعه الحماسة والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله، إنه يستدعي فقها بالشريعة وفقها بأحوال الناس وفقها بواقع الناس.
والحلم والرفق ضروري أيضا لتحقيق المراد ونيل المآرب، وإلا نفر الناس من الداعي وانقلب المطلوب إلى ضده، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله واضعا الرفق في المرتبة الثانية بعد شرط الفقه والعلم موردا قول أحد علماء السلف: ( لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه) ([7]) .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: )إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شأنه( ([8]) .
لقد وعظ أحدهم المأمون يوما فأغلظ له القول، وقال له: يا ظالم يا فاجر. وكان المأمون على فقه وحلم، فلم يعاجله بالعقاب - بل قال له: يا هذا ارفق، فإن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق، بعث موسى وهارون وهما خير منك، إلى فرعون وهو شر مني، فقال لهما: )اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( ([9]) .
والرحمة واللين أيضا لازمان لقبول الدعوة وتحقيق الغاية، وفي هذا يقول الله تعالى: )فبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ( ([10]) وهذا أدب الله لنبيه، وهو سيد الدعاة المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وأما الصبر فهو قرين الصدق في إرادة الخير للناس، والأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم، وما أفسده الناس في أزمنة طويلة لا يصلح بين يوم وليلة، ففيم اليأس والتسرع في الحكم على الناس بالفسق والكفر؟!
3 - ألا ينكر إلا على ما نص على تحريمه أو أجمع عليه:
فلا يحكم على الأمر بأنه منكر إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين، فلا ينكر على أمر مختلف فيه أو فيه اجتهاد ([11]) يقول الإمام النووي في روضة الطالبين: ( ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأنه ليس كل مجتهد مصيبا، أو المصيب واحد لا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره، وإنما ينكرون على من خالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا) ([12]) .
ويقول الإمام ابن قدامة: ( ويشترط في إنكار المنكر أن يكون معلوما من الدين كونه منكرا بغير اجتهاد، فكل ما هو محل اجتهاد فلا حسبة فيه، قال الإمام أحمد في رواية المروزي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم) ([13]) .
فلا يطلق المنكر إلا على الحرام الذي طلب الشارع تركه طلبا جازما، بحيث يستحق عقاب الله من ارتكبه، وسواء كان هذا الحرام فعل محظور أو ترك مأمور، وسواء كان الحرام من الصغائر أو من الكبائر، وإن كانت الصغائر قد يتساهل فيها ما لا يتساهل في الكبائر، ولا سيما إذا لم يواظب عليها، قال تعالى: )إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ( ([14]) .
فلا يدخل في المنكر إذن المكروهات أو ترك السنة والمستحبات، وقد صح في أكثر من حديث أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما فرض الله عليه في الإسلام فذكر الفرائض الخمسة، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة.
فلا بد إذن أن يكون المنكر في درجة الحرام، وأن يكون منكرا شرعيا حقيقيا، أي ثبت إنكاره بنصوص الشرع المحكمة، أو قواعده القاطعة التي دل عليها استقراء جزئيات الشريعة، وليس إنكاره بمجرد رأي واجتهاد، قد يصيب ويخطئ، وقد يتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال.
وكذلك يجب أن يكون مجمعا على أنه منكر، فأما ما اختلف فيه العلماء المجتهدون قديما أو حديثا بين مجيز ومانع فلا يدخل في دائرة المنكر الذي يجب تغييره ([15]) .
4 - ألا تؤدي إزالة المنكر إلى منكر أكبر منه:
فإذا أدت إلى ذلك كان التغيير في ذاته منكرا، ولهذا قرر العلماء مشروعية السكوت على المنكر مخافة ما هو أنكر منه وأعظم ارتكابا لأخف الضررين، واحتمالا لأهون الشرين، فلا يجوز دفع المنكر بمنكر أشد منه وأكبر منه، كأن تكون إزالة المنكر سببا لفتنة تسفك فيها الدماء دماء الأبرياء، وتنتهك الحرمات وتنتهب الأموال، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكنا، ويزداد المتجبرون تجبرا وفسادا في الأرض ([16]) .
ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: )لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم( ([17]) .، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم تحطيم الأصنام في مكة وانتظر امتلاكه للقوة التي مكنته من تحطيمها عند الفتح، مع أنه لو أزالها من مبتدأ الدعوة لترتب على ذلك تقتيل المسلمين، أو تعويق مسيرة الدعوة، فقدم صلى الله عليه وسلم أهون الضررين ([18]) وشواهد القاعدة أعني قاعدة عدم جواز تغيير المنكر بمنكر أشد منه كثيرة في الكتاب والسنة.
وفي ضوء الشروط السابقة مع ما نص عليه علماء الأمة من آداب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفهم الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان( ([19]) .
فمراتب تغيير المنكر ثلاث، أعلاها ما كان باليد، ثم ما كان باللسان، ثم ما كان بالقلب.
ومناط هذا الترتيب كما هو واضح في الحديث هو الاستطاعة، فمن استطاع تغيير المنكر بيده غيره، ما دام فعله لن يؤدي إلى منكر أعظم، وإلا اقتصر على الإنكار بلسانه، فإن جلب له التغيير باللسان ضررا، أو أدى إلى منكر اقتصر على الإنكار بقلبه وهو أضعف الإيمان.
فهناك من المنكرات ما لا يقدر على إزالتها إلا صاحب السلطة من الولاة والأمراء، لما لهم من الولاية العامة، وما تحت إمرتهم من أسباب الضرب على أيدي العابثين والعاثين في الأرض فسادا، بحيث لو تصدى غيرهم لهذا الإنكار لشاع الهرج والمرج، ولاندلعت الفتنة، وسفكت الدماء، وهناك من المنكرات ما يمكن لآحاد الناس أن يغيرها، أو يزيلها بيده، دون أن يؤدي إلى ما هو أنكر، كأن يكون للمغير ولاية خاصة على من يقترف المنكر كالوالدين والأزواج والأمهات وأرباب الأعمال في محيط ولايتهم. وهكذا فليس من فقه الحديث الإقدام على تغيير المنكر باليد تحت شعار أنه أقوى الإيمان، أو تحت ذريعة توافر القدرة الموهومة على إزالته، دون مراعاة لضوابط تغيير المنكر باليد أو بالقوة.
لقد ضل الكثيرون حينما ظنوا أن الأعمال الإرهابية التي يقومون بها وسائل ضغط على الحكام حتى يعدلوا عن منكرات يرتكبونها، أو حتى يرغموهم على خلع أنفسهم، وغضوا الطرف عن المآسي التي تترتب على أعمالهم الإجرامية، والتي لم تحرك ساكنا لدى من أرادوا بهم ذلك، بل كبدوا الأبرياء من الرعية الأموال والأنفس والثمرات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ([20]) .
هذا وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه أنه لا ينبغي، وذلك مبني في الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد ([21]) .
وقال القاضي عياض: (... فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه، من قتله أو قتل غيره كف يده، واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث) ([22]) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل المصلحة ودفع المفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما، إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو ميزان الشريعة) ([23]) .
الإنكار على الحكام:
إن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر، كما جاء في الحديث )أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر( ([24]) .
إلا أن الإنكار عليهم يتقيد بثلاثة قيود:
قال صاحب أضواء البيان: واعلم أن الحديث الصحيح قد بين أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث:
الأولى: أن يقدر على نصحه، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول، فليأمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم ولو لم ينفع نصحه، ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف؛ لأن ذلك فطنة القائد.
الثانية: ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره، وتأدية نصحه لمنكر أعظم، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب، وكراهة منكره والسخط عليه، وهذه هي أضعف الإيمان.
الثالثة: أن يكون راضيا بالمنكر الذي يعمله السلطان، متابعا له عليه، فهذا شريكه في الإثم.
قال: ( والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أمية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع( قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: )لا، ما أقاموا فيكم الصلاة( ([25]) . فقوله صلى الله عليه وسلم )فمن كره( يعني بقلبه ولم يستطع إنكارا بيده ولا لسانه فقد برئ من الإثم، وأدى وظيفته، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بها وتابع عليها فهو عاص كفاعلها، ونظيره حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان( ([26]) . وعلى هذا درج العلماء سلفا وخلفا ([27]) .
قال ابن الجوزي: ( الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو: يا ظالم، يا من لا يخاف الله، فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء، قال: والذي أراه المنع من ذلك؟ لأن المقصود إزالة المنكر، وحمل السلطان بالانبساط عليه على فعل المنكر أكثر من فعل المنكر الذي قصد إزالته، قال الإمام أحمد رحمه الله: ( لا يتعرض للسلطان، فإن سيفه مسلول وعصاه) فأما ما جرى للسلف من التعرض لأمرائهم؛ فإنهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب) ([28]).
ضوابط الإنكار باليد:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان( ([29]) .
الضابط الأول:
أن لا يؤدي تغيير المنكر باليد إلى منكر أشد منه، كأن يترتب على إنكاره باليد مكروه كالقتل والضرب ونهب المال وغيرها من أنواع المكروه.
قال القاضي عياض: فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه، من قتله أو قتل غيره كف يده، واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث) ([30]) .
الضابط الثاني:
أن يحذر من فتنة العوام وتأويلهم المعوج لإنكاره باليد، فيستبيحون بالاقتداء به الحرمات، ويستحلون قتل النفوس البريئة.
ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل عبد الله بن أبي رأس النفاق، كي لا يقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه، فيسبب بذلك نفور الناس من الدخول في الإسلام.