في " بريد " محمود درويش
كنت فيمن يظنُّ ؛ أن جراحنا وحدها تحترف البكاء ،وأن البريد ليس إلا جواز سفر إلى عالمٍ جديد ، عالم ٌ بلا نصر ولا هزيمة ولا مساحيق نجمل بها ليل الشّتّاء العقيم المطر ..
كنت فيمن يظنّ أن مفردة "ليلة" لا تجمعها مع العبارات رابطة اللهم إلا مع عبارة " سقوط غرناطة " لكن ، في هذه الذّكرى ما يستحق الرّثاء ،وفي هذه الأوراق المخبأة في بريد درويش ما يستحق القلق...
في هذه الأوراق سأمازج مفردة "ليلة "مع عبارة " رحيل درويش، و سأكتب قريبا:
أنّ هناك ليلة مضت ؛ حملت في سلّة ذكرياتها ثلاث سنين من اغتراب سرب الفراشات ، وثلاث سنين من جفاف زهور اللوز ؛ بعد مساء ذبول محمود درويش .
من هذه الأوراق ، فرّ ذلك السّرب . حطَّ على عيون النّهار، ولملم لون الذّبول عن جبين القمر حين تشّظى حالما ببريد ذاك الذي رحل وماترك عناوينَ له ، وإن كانت عناوينه قابلة للضّياع :
لقد كان يعلمُ أنّه سيذهب :
" أذهبُ .. أترك خلفي عناوين قابلة للضّياع " .
ويعلم أنّ الرّسائل قد لا تعرب بعيدا عن حرائق المهجر والمنافي ، فكان وجهه يطلُّ ؛ يصبغُ الغيومَ بوابل الأسئلة :
" أمّاه .ياأمّاه
لمن كتبتُ هذه الأوراق ؟
أيّ بريد ذاهب يحملها
سدّت طريق البر والبحار والآفاق "
نعم سدّت كل الطّرق بوجه عودة الرّبيع ؛ فوراء مساء رحيله خريف
ووراء هذا الشعر؛ حريق الغياب في محطات الرّاحلين ،
وله في صورة ريتا مآرب أخرى لحزن ٍ لم يكتمل ، ولم تمتليء بعد سنابله بدمع البلاد ؛ لكنه ملأ قصائده برسائل تمتد مسافة ثلاثين عاما في البريد :
"وراء الخريف البعيد
ثلاثون عاما
وصورة ريتا
وسنبلة أكملت عمرها في البريد "
فأي تاريخٍ هذا الذي أكمل أوراقه في البريد ، وأي حبّ هذا الذي عاش بين زوايا صناديق البريد وأي بلاد تلك التي عجزت أن تمنحه وردة يلتقي تحت ظلّها بمن يحب :
"يا أيها البلد البعيد
هل ضاع حبي في البريد
لاقبلة المطاط تأتينا
ولا صدأ الحديد
كلّ البلاد بلادنا ونصيبنا منها بريد "
إنّه الكنعاني الموزع بين هجرتين ، هجرة له وهجرة عليه ، هجرة صار بها رسولا ، وأخرى ماعاد له فيها غير منابر الشّهداء ومفاتيح ضاعت منها دروب السّماء وما يعرج فيها من رسائل وأناشيد وأغانٍ للبحر والرّمل ..:
"يا أيّها الولد الموزع بين نافذتين
لا تتبادلان رسائلي
قاوم ..
أنت التّشابه للرّمال .. وأنت للأزرق "
إنّه العاشق الموزع بين نجمتين ، الرّاقد في دمعة ريتا ، وفي حلم البنفسج الحزين ، إنّه المسافر منذ ستين عاصفة بلا سبب بين الرّياح وبين أكوام التّذاكر وبين أمنيات الشّمس لو تغفو لحظة عند التقاء فجرين :
"وريتا تنام وتوقظ أحلامها
- نتزوج؟
نعم
- متى
حين ينمو البنفسج
على قبعات الجنود
طويتُ الأزقة ، مبنى البريد ، مقاهي الرّصيف ، نوادي الغناء ، وأكشاك بيع التّذاكر
أحبك ريتا ، أحبك ، نامي وأرحل "
ونامت ريتا ، ورحل ، ومازال يطل في المكاتيب المهربة من ثنايا البرتقال إلى مرافئ المطر البعيد في شتاء الأغنية ..الوحيدة